السياسي الكبير مكرم عبيد باشا ..خريج المدرسة القنائية
=-=-=-=-=-=
في كتابه القيم ( القلم والأسلاك الشائكة : كتاب الهلال مارس 1997) كتب الأستاذ كمال النجمي تحت هذا العنوان عن السياسي الكبير مكرم عبيد باشا ..
وقد سبق أن كتبت السيدة مني مكرم غبيد ابنة شقيقه كتاباً عن حياة الرجل تناولت فيه جهاده ومشواره السياسي ومكانته في عالم السياسة والأدب ، وقد كان للكتاب كبير الصدي في الأوساط الثقافية والسياسية المصرية ، فقد ضم الكتاب بين دفتيه عديداً من المقالات التي سطرها مشاهير الساسة والأدباء والصحفيين عن الرجل الذي ملأ الأسماع والأصقاع بكتاباته أو بدوره السياسي ودوره في ترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة المصرية ، وعن كافة الإتجاهات العروبية في مصر والدول العربية.
وقد انتقي الأستاذ كمال النجمي مؤلف الكتاب مقالاً هاماً كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد عن مكرم عبيد باشا سلط فيه الضوء علي ناحية هامة لم يتطرق إليها كاتب ممن كتبوا عن الرجل سواء في حياته أو بعد مماته.
وقد تناول الأستاذ العقاد مرحلة التكوين الثقافي والأدبي الذاتي تجلي فيها الأمر ليكشف عن خطيب مفوه وكاتب ألمعي يتسم أسلوبه بالرصانة والبلاغة العربية علي الرغم من أن الرجل لم يكن ذات يوم قد درس الأدب العربي في أي من مناهله العديدة والمتاحة سواء في الأزهر أو دار العلوم أو مدرسة المعلمين العليا .
تخرج مكرم عبيد في جامعة أكسفورد عام 1908م ثم جامعة ليون الفرنسية عام 1912م ، وفي العام 1915م عين في وظيفة سكرتير المستشار القانوني الإنجليزي في الحكومة المصرية ، فكان من الطبيعي أن تكون لغته وكتاباته باللغة الإنجليزية حتي جاءت سنة 1919م فكانت فرصة سانحة والثورة المصرية تبدأ مسيرتها مما جعل مكرم عبيد يترك تلك الوظيفة التي جعلته نظمها كالغريب عن بني جلدته ، ففي العام 1920 قام سعد باشا زغلول زعيم الثورة بضمه إلي " الوفد المصري" الذي حمل توكيلاً عاماً من الشعب المصري للتفاوض مع الإنجليز من أجل المطالبة بحق مصر في الحرية والإستقلال .
ومن هنا بزغ نجم مكرم عبيد ليميط اللثام عن خطيب مفوه لا يشق له غبار وكاتب أريب لا يباري علي الرغم من نشأته الأولي وعمله وسط كبار الموظفين الكبار..
ويتساءل الأستاذ النجمي عن سر هذه العبقرية في البلاغة ـ فكيف لم تتمخض هذه الغربة الطويلة عن رجل متفرنج أو مستعجم معوج اللسان ، وكيف انجلي غبار تلك السنوات الطوال عن حطيب من أخطب الخطباء وأديب من أبين الأدباء؟
ويفسرلنا الأستاذ النجمي عن ذلك بقوله أن العقاد قد كتب مقالة بارعة أوردتها السيدة مني مكرم عبيد في كتابها وسبق أن نشره الصحفي الكبير أحمد قاسم جودة من قبل في كتابه " المكرميات " جمع فيه طائفة من خطب مكرم عبيد وأقواله .
بقوم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد كما ورد في الجزء الأول من " المكرميات" عن سر الفصاحة والبيان في خطابة مكرم عبيد وكتابته :
" .. فصاخب المكرميات بحق ، وليد مدرسة عريقة في فديمها وحديثها .. ومن عرف هذه الحقيقة ، عرف لماذ يعني صاحب المكرميات بجمع هذه المحسنات في نثره ، فلا تخلو خطبه أو فصوله من سجع تتلوه تورية ، ويمتزج بها جناس هنا وطباق هناك ، ولا يزال موفقاًفي اختيارها كل التوفيق حيثما ذهب طوع السليقة في هذه الخطب والفصول .. فلا يسع القارئ الذي يتابعها إلا أن يري فيها الأسلوب الطبيعي المعقول لمن ورث ذخائر المدرسة القنائية من يوم احتفظت بروح النثر والشعر كما صاغها البهاء زهير وابن مطروح والقاضي الفاضل والعماد ".
ثم يتحدث العقادج عن المدرسة القنائية التي كان ينتمي إليها مكرم عبيد بأنه ـ أي العقاد ـ عمل في بداية حياته موظفاً حكومياً في إقليم قنا أقرب الأقاليم إلي مسقط رأسه في أسوان والتي يصف فيه قنا بقوله :
" فرأيت في قنا عجباً بين البلاد المصرية في ذلك الحين ، وأعني به تلك الحركة الأدبية التي تعد تالية لحركة القاهرة نفسها في أوائل القرن العشرين ، لأننا لم نعرف مدينة بين مدن هذا القطر جمعت من الأدباء والشعراء من يضارعون أدباء قنا وشعراءها في الكثرة والجودة فلم يكن عددهم يقل عن عشرين ، ولم يكن لمجالسها حديث فيما هو أفضل عند أهلها من النظم الرائق والنثر البليغ".
وقنا مدينة كانت تعد طوال العصور الوسطي عاصمة الإقليم العريق الذي يلي في المكانة إقليم القاهرة وإقليم دمياط من حيث الأهمية حيث اشتهرت في هذا الإقليم مدينة " قوص " أكبر مدنها ، وقد أحصت كتب الأدب والتاريخ المئات من الشعراء والأدباء والعلماء الذين انتسبوا إلي قوص أو من نواحيها ثم انتقلت الإدارة فيما بعد منها إلي قنا بعد انقطاع طريق الحج بين قوص وعيذاب التي كانت ميناءاً مقابلاً لميناء جدة علي ساحل المملكة العربية السعودية .
وهكذا نجد أن لاأحد استطاع بعبقرية فذة أن يتحدث عن سر فصاحة وبلاغة مكرم عبيد سوي العقاد الذي يعد أحد أبناء المدرسة القنائية التي انتمي إليها مكرم عبيد والتي امتدت حدودها إلي ماوراء مديرية قنا حتي تبلغ أدفو وأسوان جنوباً وجرجا وطهطا شمالاً ..
ويقول النجمي عن قنا : "وإلي عقد العشرينيات من هذ القرن ـ القرن العشرين ـ كان الأدباء الموظفون الذين ينتقلون من القاهرة إلي قنا يجدون فيها بيئة أدبية حية واسعة ، لا تقل حيوية واتساعاً عن البيئة الأدبية في القاهرة ، وقد اعترف بذلك عدد من كبار هؤلاء الأدباء ومنهم الشاعر اللغوي الفقيه العلامة حفني ناصف ـ رحمه الله ـ وله قصيدة مشهورة في الشكوي من حرارة جو قنا صيفاً ، كانت مقررة علي تلاميذ المدارس ، وكنا نحفظها في صبانا ".
ومن المشاهير الذين عاشوا في قنا الشاعر عبد الحليم المصري الذي كان منافساً كبيراً لأمير الشعراء أحمد شوقي ولشعر النيل حافظ إبراهيم وله مساجلات مع شعراء قنا .
وهناك موظف آخر رأت السلطات البريطانية ضرورة إقصائه بعيداص عن العاصمة هو المرحوم حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمون فأبعدته وزارة المعارف بإيعاز من الإنجليز حيث عمل مدرساً بمدرسة قنا الإبتدائية سنة 1941م.
ويذكر الأستاذ النجمي أن الزجال الكبير محمد عبد المنعم الشهير بـ " أبي بثينه" ردحاً من الزمن في قنا وقد أكد له أن هناك أكثر من سبعين أو ثمانين أديباً قد حظوا بالعيش في هذه المدينة في الفترة مابين بدايات القرن العشرين حتي الأربعينيات منه.
ويصف لنا كمال النجمي المدرسة القنائية بقوله : " ليست مدرسة مشيدة بالحجر أو الآجر ولكنها اسم مستعار للحركة الأدبية والفكرية الزاخرة التي كانت تسود إقليم قنا ومايلي هذا الإقليم جنوباً أو شمالاً.
ومن هنا تتضح لنا تلك النشأة التي نشأ عليها مكرم عبيد في هذا الإقليم حاي سن العشرين ينهل من معينها الذي لا ينضب ومن ينابيع الأدب العربي وعلوم الدين الإسلامي والتاريخ والفن حتي تخرج فيها بعد أن اختلط برجالاتها وأساتذتها وتلاميذها ومريديها ، فلم يكن هناك أي فرق بين مسلم ومسيحي ، فأضحي مكرم عبيد واحداً من مثقفيها ومفكريها بما اكتسبه من حصافة وفصاحة ومن بيان عربي أثري كتاباته وخطبه .
ومثله تماماً نشأ الأستاذ اسحاق عبيد ـ أحد أقربائه ـ وكان شاعراً كبيراً ويذكر الأستاذ كمال النجمي أن مكرم عبيد كان اسمه الثلاثي يبدأ بإسم " وليم" وقد ورد ذلك في قصيدة كتبها والد كمال النجمي عن أصدقائه من المسيحيين والذين وصفهم بزكاء الأعراق والأصول وينسبهم إلي المجد والإخلاص والثبات علي المبدأ والجهاد ولم ينس روح الدعابة وخفة الظل فيهم وبان ذلك واضحاً في شخصية مكرم عبيد ذاته .
***
لقد كان مكرم عبيد بحق ركزاً من رموز الوحدة الوطنية ، وما أجدر شبابنا أن يعرفوا سيرته ليقفوا علي صفحاتها المشرفة وليروا نموذجاً ائعاً للشخصية المصرية الأصيلة ومن عجب نجده في أخريات أيامه بين الرجاء واليأس يردد " غننا في معركنا الداخلية أشبه بالسمك يرتطم في شباك الصياد فيحسب نفسه في عراك !.. فإذا كان هذا هو الجهاد أو ما انتهي إليه في نظرنا هدف الجهاد فهنيئاً بالصيد للصياد" ..
***
وأقول إن مصر الله حباها الله بكل أصحاب القامات العالية والقيم الباقية ستظل أبد الدهر معقل الأمن والأمان والمثل الأعلي الذي يحتذيه العالم بأسره في وحدة وطنية تجمع عنصري الأمة في رباط واحد مهم حاول الأعداء ، فمصر هي رحابة الصدر وصدق القول والعمل وهي حسن الجوار والحرص التام علي مواجهة كل عدو متربص مهم حاول أن يوغر صدر أبنائها ضد بعضهم البعض ، فمصر هي أم الدنيا
..